تعد خولة بنت ثعلبة أحد الصحابيات الجليلات اللواتي
يعتبرن قدوة لباقي النساء المؤمنات في العصور التي تبعت عصرهم. وفي هذا
البحث عرض لبعض صفات هذه المرأة الجليلة، وبعض الوقفات في حياتها، وتعد
خولة بنت ثعلبة من مشهورات العرب؛ لأن فيها وفي زوجها نزلت سورة المجادلة
عندما ظاهرها زوجها.
نسبــها:
هي خولة بنت مالك بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن
عوف، صحابية جليلة من الأنصار، وكانت زوجة الصحابي المجاهد أوس بن الصامت،
وهو أخو الصحابي الجليل عبادة بن الصامت. وكانت امرأة فقيرة معدمة، عاشت مع
زوجها حياة مسالمة، وكان أوس بن الصامت يعمل ويكد كثيراً للحصول على الرزق
وليحصل على قوت بيته، ولكن بعد تقدمه في العمر، أصبح شيخاً ضجراً، وقد ساء
خلقه مع زوجته.
خولة وعمر بن الخطاب –رضي الله عنه-:
خاطبت خولة في ذات يوم عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-
عندما كان خارجاً من المسجد وكان معه الجارود العبدي، فسلم عليها عمر فردت
عليه، وقالت: " هيا يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ ترعى
الضأن بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت
أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه
البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت"، فقال الجارود: قد أكثرت على أمير
المؤمنين أيتها المرأة، فقال عمر: "دعها أما تعرفها! هذه خولة التي سمع
قولها من فوق سبع سماوات فعمر أحق والله أن يسمع لها".
مظاهرة زوجها لها:
في ذات يوم حدث حادث بين الزوجين السعيدين، شجار
بينهما، لم يستطع أي أحد منهما تداركه، فقال لها أوس "أنت علي كظهر
أمي!...فقالت: والله لقد تكلمت بكلام عظيم، ما أدري مبلغه؟!..."، ومظاهرة
الزوج لزوجته تعني أن يحرمها على نفسه،وبذلك القسم،يكون قد تهدم البيت الذي
جمعهما سنين طويلة، وتشتت الحب والرضا الذين كانا ينعمان بهما.
وسلم كل منهما للواقع بالقسم الجاهلي الذي تلفظ به
الزوج لزوجته، ولكن بعد التفكير العميق الذي دار في رأس خوله، قررت أن تذهب
إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف لا وهي تعيش في مدينته، وهي
قريبه منه وبجواره. وعندما ذهبت إليه وروت المأساة التي حلت بعش الزوجية
السعيد، طلبت منه أن يفتيها كي ترجع إلى زوجها، ويعود البيت الهانئ لما كان
عليه دوما في السابق، ويلتم شمل الأسرة السعيدة.
لم يكن من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتأكد
من الأمر، ويسمع المشكلة من الطرفين، وهذا إن دل فإنه يدل على دقة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في التحري في الأمور؛ وذلك لتحقيق العدالة التي
يدعو إليها الدين الإسلامي، فاستدعى أوس بن الصامت، وسأله عن وقائع ما حدث
بينه وبين زوجته، فاعترف بأن ما قالته خولة قد حدث وهو صحيح، فقال له
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يا أوس: لا تدن من زوجتك ولا تدخل عليها
حتى آذن لك"، وبذلك زاد قلق خولة وذعرها، فأخذت تتوسل وتشكو إلى الرسول
–صلى الله عليه وسلم- أكثر. ثم جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينتظر
نزول الوحي عليه ليرى ما هو الواجب الذي يأمره الله -تعالى- لتنفيذه، فإن
هذا الأمر يمكن أن يتكرر على مر الزمن، وهو ليس فقط لخولة وزوجها أوس،
فالمعروف أن القران الكريم صالح لكل زمان ومكان، وعندما تنزل أية ما في
واقعة معينه، إنما هي عبره للناس كافة على مر العصور، فالقران الكريم شامل
لكل شؤون الحياة الاجتماعية والسلوكية، وقد أرسل لكافة البشرية.
فجلس الجميع ينتظرون نزول الوحي على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- في بيت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وكانت خوله
تجادله -عليه الصلاة والسلام-، وتخبره بأن لديها عيالاً لا تستطيع تركهم،
فإن تركتهم لوالدهم، فسوف يضيعون، وإن أخذتهم هي،فسوف يجوعون، وظلت هي كذلك
تفكر كيف سيعود شمل الأسرة إلى الكيان السابق، إلى أن تغير حال الرسول
الكريم، فأخذ يرتجف ويتصبب عرقاً،وتولاه صمت طويل وخشوع جليل، فقالت عائشة
-رضي الله عنها- لخولة: "إنها لحظة الوحي، وما أظنه إلا قد نزل فيك
أنت"[6]، فلم يكن من خوله المرأة المؤمنة إلا أن تتضرع بالدعاء لله
-تعالى-، وتسأله الخير في حكمه.
فلم تزل هي كذلك حتى ناداها الرسول الكريم، وكانت
ابتسامة البشرى تشع من وجهه، فتأكدت خولة بأن الله قد أنزل على نبيه الكريم
خيراً لها ولزوجها، فلقد أنزل الله –تعالى- سورة المجادلة فيها وفي زوجها
"قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع
تحاوركما" (سورة المجادلة/1 إلى آخر الآيات)، فجاء الحكم الإلهي حيث قال
تعالى-: "وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم"، ففي الجاهلية إن
ظاهر الرجل زوجته كأنه حرمها على نفسه، أي تشبيهها بأمه أو غيرها من
المحارم، ويعد هذا تجاوزاً لحدود الله، وهو ليس طلاقاً ولا تفريقاً بين
الزوجين. وقوله تعالى-: "الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن
أمهاتهم اللائي ولدنهم وإنهم ليقولوا منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو
غفور"، تأكيد بأنه لا يمكن جعل الزوجة كالأم، وما هذا إلا منكر وقول زور
على الله، فالأم محرمة شرعاً وعرفاً على أبنائها، فما من داع لتذكير الناس
بالحكم، فهو واجب مفروض، ثم قال الرسول – صلى الله عليه وسلم- لخولة ما
أمره الله به: "مريه فليعتق رقبة" أخذاً بقول الله تعالى-: "والذين
يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم
توعظون به والله بما تعملون خبير"، فأجابت خولة قائلة بأن ليس لديه ما
يعتق به رقبة، فقال: "فليصم شهرين متتابعين" عملاً بقول الله تعالى-:
"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قبل أن يتماسا"، فردت بأنه شيخ كبير لا
يقوى على الصيام، فقال: "فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر"، حسب ما قال
الله عز وجل : "فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ذلك لتؤمنوا بالله
ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم"، فقالت أنه لا يملك لذلك
ثمناً، فقال: "فإنا سنعينه بعرق من تمر"، فأدبرت قائلة بأنها ستعينه بعرق
آخر أيضاً، فقال – صلى الله عليه وسلم-: "فقد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي
به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً"، فأسرعت خولة المرأة المؤمنة والزوجة
الصالحة والوفية إلى بيتها لتخبر زوجها المتلهف بحكم الله العادل واليسير،
فأسرع الزوج السعيد إلى أم المنذر بنت قيس، وعاد من عندها حاملاً وسق تمر،
فراح يتصدق على ستين مسكيناً كما أمره الرسول الكريم، وبذلك تم تنفيذ أمر
الله، وعاد الزوجان سعيدين كما كانا سابقاً، واجتمع شمل الأسرة من جديد،
وعاشا في وئام وصفاء.
ما يستخلص من حياة خولة بنت ثعلبة:
تعد خولة بنت ثعلبة من عظيمات العرب والمسلمين، فهي
امرأة مؤمنة تقية، وزوجة وفية تحافظ على بيتها من الانهيار، وأم صالحة تفكر
في مستقبل أبنائها. ومن قصتها يمكننا استخلاص عدة أفكار، منها:
1. إبطال الله –تعالى- لظاهرة كانت شائعة أيام
الجاهلية ألا وهي "المظاهرة"، وهي تعني تحريم الزوج زوجته على نفسه،
وأنزل الله –تعالى- حكم ذلك القسم ألا وهو لا يوجب التحريم المؤبد، بل
التحريم المؤقت حتى تؤدى الكفارة، وجعل الله الكفارة بعتق رقبة، أو صوم
شهرين متتابعين إن لم يقدر على عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع
الصيام.
2. مكانة المرأة التي تحاول الحفاظ على زوجها وبيتها
في الإسلام، كما فعلت خولة عندما أصرت على الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن
يطلب من الله الحكم العادل لتعود إلى زوجها. وأيضاً في ذلك بيان إلى عظمة
الصحابيات وأنهن قدوة صالحة لجميع النساء.
3. بلاغة خولة بنت ثعلبة وفصاحة لسانها، وتبين ذلك من
خلال موقفها مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عندما جادلته بعد أن ظنت
أنها ستفترق عن زوجها، وتبيينها سلبيات هذا التفريق على الأولاد والبيت،
وفي موقف آخر أيضاً مع عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، عندما اعترضت على
سياسته وطلبت منه أن يتق الله –تعالى- في الرعية، في عبارة قوية لم
يستطع عمر حيالها إلا أن يسمع لها.
4. في هذه القصة تأكيد على وجوب الاعتماد على الله
–عز وجل- في أخذ الأحكام، واعتبار القرآن الكريم هو مصدر التشريع الإسلامي
الأساسي وتتبعه بعد ذلك السنة النبوية الشريفة.
5. بيان لطف الله بعباده وتخفيف الكفارات لهم عند عدم الاستطاعة.
6. بيان عدل الرسول الكريم، حيث إنه طلب سماع القضية من الطرفين، وليس من طرف واحد، وذلك للوصول إلى أفضل الأحكام وأدقها.
7. يجوز دفع الكفارة عمن لا يستطيع دفعها، أو لا يقدر على أدائها.