" توافق الصفات مع الكلمات
" هو مقصد العلامة د. محمد راتب النابلسي حين قال:"إن الحكمة هي " الحال وليس المقال"..إنها "عبارةٌ" تستحق الكثير من التفصيل كي نعرف جميعاً ما تكتنفه من معانٍ رائعة.
أيهما أنت؟!
ذات مرةٍ قالها "أحد العلماء" وهو "ذو النون المصري" لبعض تلامذته:"جالِس من تكلمكَ صفته, ولا تجالس من يكلمك لسانه", وعندما قيل له: من هو؟!..قال:"هو الحكيم الصادق، موعظته رؤيته..وآدابه أفعاله..وقد أغناك مشهده عن مخبره".
وبناء على مقولة المصري فإن النابلسي يخرج بهذا التصنيف بقوله:"هناك
"قال", وهناك "حال"، والإنسان حين يخطب ود الله عز وجل يكون له حال, فحال
إنسانٍ صادق في ألف خير من ألف إنسان في واحد، أي أن: ألف رجلٍ يتكلم "بلا
حال" في واحد, لا يساوي إنساناً له حال مع الله يتكلم في ألف؛ لأنك حينما
تخطب ود الله عز وجل يلقي الله في قلبك نوراً, إلا أن الحال مضبوطٌ
بالعلم".
عزيزي القارئ ..توقف قليلاً وتذكر هل سبق وأن كنت في هذا الموقف..تنَهى
"الناس" عن خلقٍ وتأتي بمثله؟!..نعم يحدث أحياناً ذلك لنا دون أن نستشعر
بأننا نقع في هذا الخطأ"..حسناً فكر جيداً في الكلام التالي وقرر إذا ما
كنت ستتغير في هذه النقطة أم لا:"إن المرءَ حينما يحقق هدفه يتألق, قد يكون
الهدف خسيساً, وقد تكون الوسيلة غير مشروعة, أما حينما يكون منضبطاً
بمنهج الله عز وجل, ويتصل بالله اتصالاً حقيقياً, له حال, عندئذٍ يكون هذا
الحال أبلغَ من ألف قال"..فأيهما أنت من أهل الحال أم القال؟!.
لكن هل من "وصفة" حتى نصل إلى هذه "المرحلة الراقية"؟!..نعم بالطبع يوجد!..فامتلاك هذه "الحال" عماده الانتماء للدين بشكلٍ فعلي، بحيث يتصل قلب المسلم بالله عز وجل، فيُلقي الله في قلبه نوراً يُشكّل بالنسبة له قوة تأثير يستحوذ على قلوب من حوله.
ولتأكيد قول "شيخنا الجليل" عن علاقة الاتصال بالله بامتلاك حالٍ مؤثر في
الناس، يطرح تساؤلاً:"لماذا الإنسان إذا ما التقى رسول الله يشعر أنه يطير
من السعادة؟"، فيجيب: "قالوا: محمد سحرَ أصحابه بحال"، و"لماذا هناك
مفارقةٌ عجيبة بأن أصحاب رسول الله, وهم قلة، ملؤوا الأرض حكمة, وهداية
وسعادة, أما الآن وقد بلغ عدد المسلمين مائتي مليار فإنهم مقهورون, كلمتهم
ليست هي العليا؟ لأن "هؤلاء" انتماؤهم للدين شكلي..
إنها روحانية الاتصال بالله
ولمن اعتاد أن يكون في موقع مخاطبةٍ للناس لاسيما الدعاة، يقدم النابلسي
لهم "هديةً نفيسة"..فيقول:"أنت بأمسّ الحاجة إلى أن يكون لك حالٌ مع الله،
حتى تكون قادراً على التأثير، فقد تجد إنساناً معلوماته محدودة ومتواضعة,
لكن تأثيره كبير, وقد تجد إنساناً معلوماته دائرة معارف بينما تأثيره
محدود..هذا لأن التأثير لا يتأتى من فصاحة العبارة, ولا من كثرة الأفكار,
ولا من دقة الشواهد, ولا من عمق التحليل, التأثير يتأتى من اتصالك بالله عز وجل, واشتقاقك منه".
ويضيف:"مهما كان في العبارة فصاحة, وفي الأفكار دقة, وفي التحليل عمق, لا
تؤثر، إلا إذا كان لك مع الله حال، هذا الحال يعطي الكلام قوة تأثيرية
عجيبة, أن تطبق ما تقول، إن طبقت ما تقول اتصلت بالله عز وجل, وهذا الاتصال
يجعل في كلامك روحانية".
ولأجل تقريب الصورة..انظر إلى وردةٍ حمراء بلاستيكية كبيرة..إنك بعد حينٍ
تملّ منها لترميها, أما إن وضعت وردة حقيقية, ليس هناك مجال للموازنة
بينهما؛ فالثانية فيها حياةٌ ورائحة وجمال وقوة تأثير بخلاف الأولى".
وما بين العالِم والحكيم فرقٌ كما بين الأرض والسماء، يوضحه النابلسي:"إن
العالِم معه معلومات دقيقة جداً, أما الحكيم فقد طبق هذه المعلومات فتألق
وهو يمتلك الحقيقة والبرهان عليها, أي أن العالم قد يحدثك عن الصبر, أو عن
الشكر حديثاً طويلاً دقيقاً عجيباً, ولكن الحكيم صابر, وشاكر، "فبين أن
تتحدث عن الصبر وبين أن تكون صابراً, وبين أن تتحدث عن الشكر وبين أن تكون
شاكراً، مسافةٌ كبيرة".
ويرى أن أهم كلمة في مقام التفريق بين العالم والحكيم أن "حال واحدٍ في ألف خير من ألف قال في واحد", أي أن: ألف إنسانٍ متكلم لا يهزون واحداً, وإنسان متصل بالله يهز ألفاً.
ومن أكثر ما يدخل في حديثنا اليوم هو مسألة "جهاد النفس".."فأنت عندما
تنتصر على نفسك, بإمكانك أن تعمل جولة مع الخصوم, أما إذا كنت مهزوماً مع
نفسك فأنت منتهي".
ومثال على ذلك حال الأب المثقف المدخن الذي ينهى أبناءه عن التدخين, فهو
بمجرد أن يدخن انتهى، وهذا يعني أنه ضعيف الإرادة أمام نفسه,, إذاً فهو
مهزومٌ أمام ذاته، والمهزوم لا يؤثر حتى في أبنائه".
طبّق وأخلِص وتعلم
"طبق..وأخلص..وتكلم بأي لغة وبأي أسلوب تشاء..وعندئذٍ يصبح لكلامك قوة
تأثير, لأنك أنت تنطق بالحكمة, والحكمة فيها علم, وفيها دليل, الدليل:
أنت".
وواحدةٌ من مشاكل "المسلمين" في هذا العصر هي الإخلاص دونما شك..حيث إذا
كان بحياتك أشخاصٌ ترجوهم أو تخافهم يصبح إخلاصك ضعيفاً لله عز وجل"- وهذا
كثيراً ما نراه في الكثير من المواقع-.
إذن تذكر دائماً..ليست المعلومات هي المُقوّم الوحيد لهداية الإنسان،
فالمكتبة الإسلامية طافحةٌ بالمعلومات, لكن يوجد رجال لهم اتصال قوي بالله
يهز المجتمع، وإن كانت معلوماتهم محدودة فالإخلاص كفيل بجذب الناس إليهم،
وفي المقابل فإن الرجل إن جمعَ العلم ثم نافق أو أكل الربا أو كذب فقد
انتهى من وجهة نظر الناس، وهذا ما يبرر ابتسامة الإمام الغزالي واكتفائه بالقول "زادت نسخة" حين قيل له: فلان حفظ كتاب الأم للشافعي!.
ختام الكلام في الحديث عن الحال كما يقول النابلسي:"نحن بحاجة إلى إنسانٍ
مسلم, صادق, أمين, متواضع, ورع, ضابط دخله, وإنفاقه, هذا الذي يلفت النظر،
نريد لوناً صارخاً يراه الناس من بعيد، والمؤمن الذي له حال بسبب طاعته
لله هذا لونٌ صارخ، لكن كل إنسان يدّعي الحال، و"مستحيل" و"ألف مستحيل" أن
يُلقي الله عز وجل نوره في قلب إنسان فاسق، فالحال يجب أن يضبطه العلم، وقد يكون الحال شيطانياً, أما الحال إذا كان نابعاً عن طاعة لله عز وجل فهذا الذي نتحدث عنه هنا"
*********************